علم النفس الاجتماعي في الحج

علم النفس الاجتماعي في الحج


بمكة المكرمة في هذا الأسبوع من كل عام يقام الحج الذي يعدّ من أكبر فعاليات الحشود في العالم (الإحصائيات الرسمة للعام الماضي ذكرت تواجد ١,٨٦٢,٩٠٩ حاج). يوصف الحج بأنه أكبر تجمّع عالمي كون المسلمين يأتون إليه من أقطار العالم كلها ليجتمعوا في مكة, كما أن الحج أيضا كان مسرحا لعدد من المآسي والتي شملت حادثة السحق عام ٢٠١٥ والتي راح ضحيتها أكثر من ٧٠٠ شخص على تقاطع في منطقة منى.

على الرغم من أهمية الموضوع وقيمته العالية عند الكثيرين, إلا أن دراسات نفسية قليلة أجريت على الحج, ومعظم الدراسات التي أجريت كانت من منظور طبي أو هندسي. حصلت و د.هاني النابلسي (أثناء عمله معي طالبا في الدكتوراة) على فرصة نادرة لدراسة سلوك الحشود في الحج حيث جمعنا بيانات من حجّاج عامي ٢٠١١ و ٢٠١٢. قام د.هاني النابلسي بعشرات المقابلات وأكثر من ١٠٠٠ استبانة مع الحجاج, أجريت جميعها في المسجد الحرام أو في محيطه, ما وفر لنا قاعدة بيانات فريدة أتاحت لنا ولأول مرة فرصة الإجابة على عدد من التساؤلات المهمة في علم نفس الحج. أنهى د.هاني النابلسي رسالته للدكتوراة عام ٢٠١٥, وحاليا نحن بصدد نشر نتائج دراساته في مجلات علمية, وفي ما يلي أهم النتائج التي توصلنا لها:

مثال على الزحام عند مستوى ٦ أشخاص بالمتر المربع

كيف يحسّ الناس بالأمان وسط الزحام الشديد؟

في بداية تحليلنا للبيانات بحثنا عن العوامل وراء الإحساس بالأمن في حشد الحج (والذي تصل شدة الزحام فيه أحيانا إلى ٩أشخاص بالمتر المربع عند الكعبة) قمنا بإختبار فرضية أن علاقة شدة الازدحام والأحساس بالخطر تختلف من شخص لآخر حسب إحساسه بالانتماء للحشد. عند تحليل البيانات وجدنا أن التأثير السلبي للازدحام على الإحساس بالأمن فعلا يتغير حسب الإحساس بالانتماء, بحيث يشعر الأشخاص ممن لديهم انتماء منخفض بالخطر عند ارتفاع الازدحام بينما ذكر الأشخاص ذوي الانتماء العالي للحشد إحساسهم بالأمان على الرغم من شدة الزحام مبررين ذلك بشعورهم أنهم محاطون بأشخاص داعمين لهم, الشيء الذي أكده أيضا التحليل الإحصائي للمتغير الوسيط (Mediation Analysis). على وجه الخصوص وجدنا أن الحجاج العرب والإيرانيين كانوا أكثر إحساسا بالأمن من غيرهم مقارنة بالحجاج الآخرين, ويبدو أن السبب هو إحساسهم بالتماهي مع الحشد العام أعلى وبالتالي توقعهم للدعم أكثر مقارنة بالجنسيات الأخرى.  

تغييرات نفسية تشمل تغيّر التوجهات نحو الجماعات الأخرى

في الجزء الأخير من سيرته الذاتية, يذكر الناشط الأمريكي مالكوم إكس وبشكل جذاب التجلّيات التي أحس بها أثناء مشاركته بالحج:

” الحجّ وسّع أفقي, ومنحني بصيرة جديدة. خلال أسبوعين في الديار المقدسة رأيت مالم أره خلال ثلاثين عاما هنا في الولايات المتحدة. رأيت كلّ الأعراق, كلّ الألوان -من أصحاب العيون الزرقاء إلى الأفارقة أصحاب الجلود السوداء- ضمن أخوّة صادقة! في اتّحاد! … في تلك الأرض المقدسة تغيّرت توجهاتي بسبب ما عايشته هناك, وما رأيته في ذلك المكان من أخوة- ليست أخوة نحوي فقط وإنما بين كلّ البشر من كلّ الجنسيات وألوان البشرة, ممن كانوا هنالك.”

كتاب (emphasis in original) ص٤٧٨و٤٧٩.

تجربة مالكوم إكس لم تكن فريدة من نوعها, حيث تخبرنا نتائج الدارسة التي قام بها Clingingsmith وزملائه على عينة كبيرة من الحجاج الباكستانيين وأظهرت تحسنا في التوجهات الايجابية لديهم نحو المجموعات الأخرى, بالإضافة إلى زيادة التزامهم بالهوية الإسلامية.
في التحليل الثاني لبيانات دراستنا قمنا بمحاولة للكشف عن الآلية التي تتم خلالها هذه التغيّرات وكانت النتائج متوافقة مع نظرية الاحتكاك الاجتماعي, حيث وجدنا أن المتغيّر الأهم المفسّر لتحسن التوجهات نحو المجموعات الأخرى كان هو الانتماء للحشد في الحج والذي يعمل من خلال خلق هوية مشتركة للجماعة. تلك النتيجة أيضا متّسقة مع تفعيل الهوية الاجتماعية في أدبيات نظرية الهوية الاجتماعية, حيث وجدنا أن زيادة الانتماء الاجتماعي يمثل آلية هدفها تقديم الدعم الاجتماعي للآخرين. تفيد نتائج دراستنا إلى أن المشاركة في تجمعات عامة لكل المسلمين تحسنّ من التوجهات نحو الجماعات الأخرى (حتى غير المسلمين) بسبب ارتفاع الانتماء لحشد الحج. هذه النتائج تقدم تفسير مختلف لدعاوى تفترض أن مثل هذه التجمعات تشجع على (التعصب) وعدم تقبل الآخر.

علاقة المساحة والمكان بدورة التعاون الفاضل

التعاون بين الحجاج ليس فقط فضيلة قيمية وإنما أيضا حاجة عملية نظرا لارتفاع كثافة الزحام في الحج. عند تحليلنا للبيانات بحثا للعلاقة بين تعاون الحجاج وموقعهم بالنسبة للمسجد الحرام, كشفت المقابلات عن أهمية تواجد الحجاج بالقرب من الكعبة نظرا لأهميتها الروحية, إلاّ أن ذلك يقود إلى تجارب متناقضة ما بين سلبية (مثل التدافع التنافسي) وإيجابية (مثل الدعم الاجتماعي) داخل المسجد الحرام. أظهرت بيانات الاستفتاء أن تقديم المساعدة كان شائعا بين الحجاج بشكل عام إلاّ أنه مرجح أن يحصل في الساحات الخارجية أكثر من حصوله داخل المسجد. أيضا وجدنا دلائل على وجود ما أسميناه “دورة التعاون الفاضل”, والتي تحدث كالتالي: رؤية حجاج آخرين يقدمون المساعدة يجعلنا ننظر لهم كمسلمين صالحين, ما يزيد بانتماء الفرد للحشد, والذي بالتالي يزيد من فرصة تقديم المساعدة للحجاج الآخرين. هذا النموذج التنبؤي وجدنا أنه ينطبق في حالة الحجاج المتواجدين في الساحات الخارجية وليس داخل المسجد, ما يقود لافتراض تأثير المكان و المساحة في العمليات القائمة على الهوية.  

الخلاصة

في الماضي وعندما يتم التطرق للجانب السلوكي في الحج فإنه يتم عبر مواضيع مثل الفزع والتدافع, إلا أن هذا التناول ليس مبنيا على دراسات منهجية لسلوك الحجاج وواقع تجربتهم. بالإضافة إلى ذلك فإن مثل هذه المواضيع تستخدم لإلقاء اللوم على الحجاج وسلوكهم وغض النظر عن أخطاء الإدارة ودورها بالكوارث. مشروع الدكتوراه الذي قام به د.هاني النابلسي هو أول دراسة تطبق مبادئ علم النفس الاجتماعي الحديث على الحج وبالذات مفهوم الهوية الاجتماعية والمعايير الاجتماعية. في رأينا أن هذه المفاهيم لن تساعدنا فقط في الوصول لفهم سليم لسلوك الحجاح وإنما سوف تساهم زيادة الأمان في الحج مستقبلا من خلال توجيه وارشاد التخطيط لإدارة مثل هذه التجمعات العالمية.

كاتب المقال: د. جون دروري , استاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة ساسكس.
المترجم: خليفة الفضلي

This article was written by John Drury and translated by Khalifah Alfadhli.

FacebooktwitterredditlinkedintumblrmailFacebooktwitterredditlinkedintumblrmail
Posted in Uncategorized

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*